الفصل الأول
استقلالية رسول الله
القارئ للسيرة النبوية بقليل من الدقة والتأمل سيجد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم استقلالية في رؤيته للأمور وفي قراراته التي يتخذها وفي أقواله وفي أفعاله ، وهي استقلالية يتميز بها ويختلف عن غيره من البشر سواء أولئك الذين عاصروه أو ممن جاءوا بعدهم أو من كانوا قبلهم أيضا ، فأما الذين عاصروه فهم الصحابة وهم خير البشر وأفضل خلق الله بعد الأنبياء باتفاق جميع العلماء وعلى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ودلت عليه الوقائع والحقائق ، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه مسلم عن عمران بن حصين " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " (1) .
ويقول بن القيم " صار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله سوى الأنبياء وصار أفضل الناس من بعدهم من اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم إلى يوم القيامة من العرب والعجم " (2) وأما الذين كانوا قبلهم فأقصد بهم أولئك الذين اتبعوا أنبيائهم وآمنوا بربهم ، إلا أن هؤلاء لم يكونوا لأنبيائهم ولدينهم كما كان الصحابة لله ولرسوله ، لذا كان الصحابة أفضل منهم ،
ويستثنى بطبيعة الحال من البشر محل كلامنا أهل الكفر والضلال في جميع العصور والدهور سواء من عندهم كتاب سماوي أو من لا يدينون بدين مطلقا أو غيرهم . وسواء قبل الإسلام أو بعده
" لأن دين الإسلام هو الناسخ ، وهو كالصلاة إلى الكعبة الناسخة للصلاة إلى بيت المقدس فمن تمسك بالمنسوخ فليس على دين الأنبياء . لهذا كفرت اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع منسوخ . والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله ومحمد الخاتم . لذا على جميع الخلق اتباعه "(3) ومن ثم ينفرد صلى الله عليه وسلم بهذه الاستقلالية الفذة دون البشر جميعا أولهم وآخرهم .. وهي استقلالية متميزة لا تنم عن شخصية ديكتاتورية ترى فى رأيها الصواب وإن اتخذت الشورى مبدأ لها ، ولا عن شخصية أنانية تعتز برأيها وتعشقـه . إنما مردها انفراده صلى الله عليه وسلم فى الخلق والاستواء الفطري والعقلي والقلبي ، لذا كان ما يراه لم يكن يراه غيره ، وما كان يقرره لم يكن يقرره غيره ، وما وقر فى قلبه واحتواه ضميره ما وقر فى قلب غيره أو ضميره . فما هي مظاهر هذه الاستقلالية وما هي أسبابها ؟
وللإجابة على هذا السؤال نفرق بين مرحلتين . ما قبل البعثة وما بعدها
----------------------------------
مرحلة ما قبل البعثة ، الصدق والأمانة :
-----------------------------------------------
اجمعت كتب السيرة والتاريخ على جميع المستويات . أن محمد بن عبد الله كان دمث الخلق مشهود له بطهارة القلب ورجحان العقل ، ووصف بين الناس فى هذه المرحلــة بالصادق الأمين ، وهما خلتان تجمعان كل صفات الخير وتنفيان كل صفات الشر ، فالصادق لا يكذب ولا يغتاب ولا يمشى بين الناس بالنميمة ولا يقول فحشا ولا يسب ولا يشتم ولا يحسد ولا يبغض ولا يحقد… الخ , وينفى الصدق عنه النفاق والرياء والوصولية والانتهازية والأنانية والتدخل فيما لا يعنيه والغضب والتهور والمراء والجدل والثرثرة والتملق والهجاء والشعر والكهانة والدجل والسحر والشعوذة والتنبؤ …الخ ، والأمين لا يغدر ولا يخون ولا يسرق ولا يرتشي ولا يرشي ولا يأكل سحتا ولا يتعامل بالربا ولا يطمع إلى ما عند غيره ولا يتجسس ولا يتحسس ولايتصنت لأن كل خلة من هذه الخلال تتعارض مع الأمانة …الخ ، وهو مع كل تنزهه عن هذه المنهيات كان لابد أن يتحلى بكل الصفات الحميدة . فالصادق شجاع ونبيل وذو مروءة ، والمروءة صفة لا تنفك عن الصدق لمساعدة المحتاج ومد يد العون له ، والصادق عف اللسان لا تخرج من شفتيه كلمات الفحش والسوء ، والصادق صبور لأن قائل الحق لابد أن يكون صبورا وقورا رزينا متزنا ذا جلد دقيقا في أقواله دقيقا في أفعاله … الخ والصادق يكون بارا بمن حوله واصلا لرحمه رحيما بمن هو دونه مجلا لمن يكبره .. ونتذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم فى جزء من حديثه الذي قال فيه : " الصدق يهدى الى البر ، والكذب يهدى الى الفجور " (4) فإذا كان الفجور هو أعلى درجات الفسق والرذيلة ، حيث لا يتورع المرء عنده من ارتكاب كافة المحرمات وإن اجتنب بعض الكبائر العظام كالسحر والقتل والشرك بل لعل الفجور الذي منشأه الكذب يقوده إليها ، فأن الصدق على العكس من ذلك تماما يهدى إلى البر الذي هو أعلى درجات الورع والعفة والخلق الحسن ، والأمين نزيه العين والسمع وسائر الجوارح ، لأن الأمانة لا تقتصر على المال وإنما تشمل العرض والشرف ، فلا تنظر عينه الى مالا يحل له ولا يتسمع مالا ينبغي سماعه. فإذا كان أمينا في سمعه وفى بصره ويأتمنه الناس على أموالهم وأعراضهم فهو إذن لا يزنى ولايهتك عرضا بأدنى درجات هاتين الفاحشتين أو أعلاهما ، وهو يتمتع بالحياء كله ويدرأ عن نفسه الشبهات كلها . والصادق الأمين متواضعا يمشى بين الناس الهوينى بغير كبر أو غرور أو اختيال ، إذا دعي أجاب وإذا أهدى قبل وإذا سئل أعطى وإذا وعد أوفى وإذا عمل أتقن .
كل هذا وغيره هو الذي جعل السيدة خديجة بنت خويلد التي كانت تسمى بالطاهرة فى الجاهلية والإسلام تسعى الى الزواج منه وقد خطبها قبله كثير من العظماء فرفضت وكانت معروفة بالحزم والجد وفعل الخير وهى أوسط قريش نسبا وأكثرهم مالا ، فاسمع إليها وهى تخطب محمد فتقول له : " يا بن عم إني رغبت فيك لقرابتك وسطتك فى قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك " وتصفه فى موضع أخر عندما أخبرها بنزول الوحي عليه فتقول " إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر " (5)
ويقول أبو طالب عندما طلب يدها من أعمامها بنو أسد يقول " ثم إن بن أخي محمد بن عبد الله من لا يوزن برجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا ، فإن كان فى المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة , ومحمد من قد عرفتم " ، فيرد عليه ورقة بن نوفل بن أسد " نحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك لاتنكر العشيرة فضلكم ولايرد شرفكم "(6) ويقول له أبو جهل فى أول بعثته صلى الله عليه وسلم تأثرا بما علمه عنه قبل البعثه " اذهب أبا القاسم فما كنت جهولا " (7)، ويقول للمغيرة بن شعبة في واقعة أخرى : " إني لأعلم أن ما يقوله حق " ويتحير الوليد بن المغيرة فى نسبة نقيصة له فينفى عنه الكهانة والشعر والكذب فلم يجد إلا أن يرضي غرور قومه فيقول " ساحر "(
، ويتمنى أبو سفيان أن ينسب إليه زلة في مواجهة عظيم الروم فلم يجد (9) ويسمع أمية بن خلف أن رسول الله قاتله فيصيبه الهلع ويرتعد ويمكث فى بيته خائفا لا من بطش محمد به وترقبه لقتله ولكن لعلمه أنه صلى الله عليه وسلم لا يكذب وأنه إن قال صدق ولابد أنه مادام قال أنه سيقتله فهو قاتله . وما أسرع الإيمان بأبو بكر وتصديقه لرسول الله إلا من علمه بصدقه المطلق قبل نبوته . ورجل بكل هذه الصفات لابد أن يكون راجح العقل قوى الحجة سريع البديهة فطن ذكي لبيب ، وإلا ما ارتضى سادة قريش وكبرائها أن يكون لهم حكما عند اختلافـهم على وضع الحجر الأسود وقد أثبت رجحان عقله وذكائه في هذه الواقعة(10) وحسم بذلك جدلا ونقاشا ربما لم تكن لتحمد عواقبه لو تطور دون هذا الحل الذي وفقه الله تعالى إليه ، الأمر الذي نقطع به أن محمد بن عبد الله كان مستقلا فى سماته الخلقية فى هذه المرحلة ، وحسبنا في هذه المرحلة قوله صلى الله عليه وسلم " ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر ,كلتاهما يعصمني الله منهما " (11)
-------------------------------- ---------------
(1) صحيح مسلم 2535 باب فضل الصحابة (2) فصل في فضل العرب لابن القيم
(3)مجموعة الفتاوى لابن تيميه الجزء الخامس والثلاثون
(4) صحيح البخاري 5743 (5) صحيح البخاري باب بدء الوحي 4670
(6) السيرة الهشامية (7) نفس المصدر (
بن حبان 6567
(9) حياة الصحابة الكاندهلوي جزء أول
(10) صحيح البخاري 6 بدء الوحي (11) انظر الأحاديث المختارة للمقدسي 439