البيئة والوراثة .
------------------------
يقول العقاد فى عبقريته " قبيلة في تلك الأمة لها شعبتان .. الثانية من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى فيصبر وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق وليس له لؤم الثروة الجامحة والكبرياء الجانحة والقسوة ذاكم هو بيت عبد المطلب ورأس هذا البيت هو عبد المطلب رجل قوى الخلق قوى الإيمان . "(5) فكانت هذه البيئة بهذا الوصف هي البيئة التي نبت فيها محمد وترعرع بين ربوعها
وورث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه نزولا إلي سالف أجداده عظيم الصفات وجليلها وهو القائل عن نفسه في صحيح مسلم عن أبي عمار شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم (6) وقال من حديث بن عباس رضى الله عنه
"لم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة صفيا مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت خيرهما(7) " فنسبه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنساب ، وسببه إلى الله سبحانه باصطفائه إياه واختياره له أفضل الأسباب، وبيته فى قريش أوسط بيوتها الحرمية، وأعرق معادنها الكرمية ، لم تخل قط مكة من سيد منهم أو سادات، يكونون خير جيلهم ورؤساء قبيلهم، حتى إذا درجوا سما قسماؤهم فى المجد الصميم، وشركاؤهم فى النسب الكريم إلى ذلك المقام ، فعرجوا فصحبوا على ذلك الزمان . لواؤهم على من ناوأهم منصور، وسؤدد البطحاء عليهم مقصور، والعيون إليهم أية سلكوا صور ، ثم أتى الوادى فطم على القرى ، وشد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبى الأمى ، فاحتازوا المجد عن آخره ، وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره." (
" فهذا هاشم بن عبد مناف المسمى بذلك لكرمه المفرط ويده التي لم تنكر ، فقيل هشم الثريد وأطعم الناس فسمى هاشما ، وهو الذي جمع كل قريش على رحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارة , وكان يقسم ربح الغني بينه وبين الفقير حتى صار فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على هذا فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش . وهذا عبد المطلب أجل قومه قدرا وأعظمهم خطرا وأعلاهم نسبا وأكرمهم حسبا وكان يعرف فيه هيبة الملك. وعنه قال الزبير : " ومكارم عبد المطلب أكثر من أن أحيط بها " ، كان سيد قريش غير مدافع نفسًا وأبا وبيتًا وجمالاً وبهاءً وفعالاً وكمالاً ، فصلى الله على المنتخب من ذريته ، المخصوص بأولية الفخر وآخريته ، وعلى آله الأكرمين وعترته وسلم تسليمًا " . وأبوه – عبد الله- "بضعة من عالم الغيب أرسلت الى هذه الدنيا لتعقب فيها نبيا دون أن تراه إنسان من طينة الشهداء يتجه إليه القلب الإنساني بكل ما فيه من حب وحنو ورحمة .وأحبه قومه وعظم خطره فيهم (9) ويقول عنه الزبير أيضا " كان عبد الله أحسن رجل رئى فى قريش قط " (10)
معدنه
----------------
ولكن لم تكن تكفي هذه العوامل لتمييز استقلاليته صلى الله عليه وسلم إذ كلها عوامل قد يشترك معه فيها غيره ليبقى عامل آخر يخصه هو وحده , هذا العامل هو المعدن المتوطن فى وجدانه صلى الله عليه وسلم هو اليقين الساكن فى فؤاده والنور الذي توهج فى أعماقه ، الذي جعله يميز الخبيث من الطيب والقبيح من الحسن والباطل من الحق ، فيتمسك بالطيب والحسن والحق ويعمل بهم ويتخذهم سبيله ، دون أن يأمره بذلك دين أو عقيدة ودون أن يحضه على ذلك إنسان ، فلم يله مع اللاهين ولم يسفه مع السافهين أو يخوض مع الخائضين ، لم يجار الصبية والشباب فى لهوهم وعبثهم لما وجد فى ذلك حمقا وجهالة , ولم يعاقر خمرا أو ميسرا لما وجد فيهما دنية ومذلة ، ولم يسجد لأصنام قومه ولم يحلف باللات والعزى لما وجدها أصنام لا تضر ولا تنفع , عمل برعي الغنم ولم يزل صغيرا ، اشترك في حلف الفضول ولم يزل شابا يافعا , سافر للتجارة وسنه اثنا عشر عاما . كان على دين الحمُس , وكان يتحنث وحده فى غار يقضي في الليالي ذوات العدد يختلي فيه متأملا سائلا باحثا عن الحقيقة . وهكذا وصفته كتب السيرة فى مرحلة حياته قبل البعثة فقالت : " كان أفضل قومه مرءوة وأحسنهم خلقا وأعزهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وألينهم عريكة وأعظمهم نفسا وأكرمهم خيرا وأبرهم محلا وأوفاهم عهدا وآمنهم أمانة وأوصلهم رحما وأشدهم تواضعا وأنقاهم سريرة . وكان أسلم الناس قلبا وأطهرهم ثوبا وأزكاهم عقلا .
ويصفه بن تيمية فيقول " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس تربية ونشأة ، لم يزل معروفا بالصدق والبر ومكارم الأخلاق والعدل وترك الفواحش ، والظلم وكل وصف مذموم ، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة ، ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة، ولا يعرف له شيء يعاب به؛ لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولاجرت عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة. " وبهذا المعدن اهتدى صلى الله عليه وسلم إلى الحقيقة ولكنه لم يكن يدري كنهها ولم يدري الطريق إليها , فذلك قوله تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) (11) شأنه في ذلك شأن ممن سموا بالحنفاء في عهده إلا أنه كان يفرق عنهم في أميته التي حالت بينه وبين العلم والتعلم فلم يقرأ كتابا ولم يطلع على عهد قديم أو جديد ولم يعرف زبورا أو مزمورا ولم يتخلف إلى أحد ينهل من علمه ، إلا أن ذلك لم يفتر من إرادة الخير لديه فظلت تقوى حتى صارت إرادة مطلقة في حد الإطلاق والقدرات البشرية لا تعرف شرا ولا تعرف منكرا , فكان باعث الخير لديه ينبع من داخله ومن جوهره دون تعلم ودون وحي .
-----------------------------------------------------
(1) رواه ابن الأثير ورواه الحاكم عن علي ابن أبي طالب ورواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر
(2) مسلم 2658
(3) ذكره بن حجر في فتح الباري تحت عنوان كراهية التعري في الصلاة
(4) ذكره الذهبي والسيوطي وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وضعفه الألباني
(5) أعلام النبوة الماوردي
(7) عبقرية محمد (13) صحيح مسلم 2276 وبن حبان 6242
(
زاد الميعاد وسيرة بن إسحاق (9) الاكتفا في المغازي
(10) عبقرية محمد (11) الضحى: 7