الوحي
-----------------------
الوحي وسيلة إلى غاية
------------------------
ينقسم الوحي الى قسمين : القسم الأول وحي للمخلوقات جميعا بما فيهم البشر ويدخل في هؤلاء البشر الأنبياء ولكن قبل بعثتهم ، والقسم الثاني : الوحي المتعلق بالرسالة والرسل وهذا القسم سبق الحديث عنه في الخصائص النبوية المحمدية . أما بالنسبة للقسم الأول فقد عرفه بعض العلماء بالإلهام الإلهي وعرفه البعض الأخــر بالإعلام بخفاء إلا أن كلاهما جعل هذين التعريفين قسما واحدا وخلطهما بوحي الرسل ، بينما انفرد بن خلدون بتعريف خاص به أرى أنه مستمد من غير دليل شرعي أو عقلي ألا وهو أن الوحي " انسلاخ الأنبياء من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير النبي في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل "(1)
وللمزيد يمكن القول أن الوحي هو أحد الوسائل التي يستخدمها الله سبحانه وتعالى لتحقيق مرادا له ينبغى أن يكون أخذا بسنته جلا وعلا فى الأخذ بالأسباب . وذلك بأمر مباشر منه للموحى إليه يُجبر خلاله على تنفيذ هذا الأمر بإرادته أو بغير إرادته ، وهذا الوحي لجميع مخلوقاته سبحانه وتعالى ، وللبشر أيضا بما فيهم الأنبياء ولكن قبل أن يبعث إليهم لكونهم حينئذ من سائر البشر , أما بعد تكليفهم بالرسالة أو النبوة فيصير الوحي إليهم وحي من نوع خاص يختلف عن الوحي محل هذا القسم ، ويستثنى من هذه المخلوقات التي يوحي إليها الله تعالى المشركين والشياطين . إذ لم يثبت وحي الله تعالى للشياطين إنما ثبت أنهم يوحي بعضهم إلي بعض ويوحون هم إلي أوليائهم ، قال تعالى (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون)(2) ، وقال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (3)، كما لم يثبت فى الكتاب والسنة وفى الكتب السماوية السالفة أو على ما يستدل به من أي مصدر من المصادر وحيه سبحانه وتعالى للمشركين في أي عهد من العهود البائدة أو المتقدمة ، إذ لا يستخدمهم تجلت قدرته فى تحقيق مراده , إنما يوحي إلى الصالحين والأتقياء والأولياء بوصفهم الأجدر والأحق بهذا التلقي وبتحقيق هذا المراد الذي يبتغيه الله .
فأوحى الله الى السماوات فقال (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) (4) وأوحى الى الارض فقال (يَوْمَئِذ ٍ تُحَدِّث ُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (5) وأوحى الى الملائكة فقال (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (6)وأوحى الى النحل فقال (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً )(7)
وأوحى الى أم موسى فقال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (
وأوحى الى يوسف طفلا فقال (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (9)وأوحى الى الحواريين (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)(10)
---------------------------
(1) تاريخ بن خلدون الجزء الأول (2) الأنعام من الآية 121 (3) الأنعام 11 (4) فصلت من الآية 12 (5) الزلزلة 4 , 5
(6) الأنفال 12 (7) النحل من الآية 68 (
القصص من الآية 7 (9) يوسف 15 (10) المائدة111
وتلمح من هذه الآيات أن لكل وحي غاية وهدف .
فالوحي إلى السماء مثلا كان جزء من الخلق وتدبير الله لكونه إذ أمر الله كل سماء بما ينبغى أن يكون فيها من ملائكة ونجوم وشموس وكواكب وأقمار ونيازك وشهب وغيره . قال تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (1)
ووحيه إلى الأرض إيذانا بيوم القيامة لتخرج ما فى بطنها من أجداث وجيف .
ووحيه إلى الملائكة فى الآية المشار إليها لتثبيت الذين أمنوا .. يقول تعالى (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (2) وذلك بمناسبة موقعة الأحزاب
ووحيه إلى النحل بأن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر والعروش بقصد الاستفادة بأكبر عدد ممكن من البيئات المختلفة وبما فيها من متنوع النباتات حتى تنوع ذلك الشراب المختلف الألوان الذي يخرج من بطونها فيه شفاء للناس ، بخلاف العديد من الحشرات بصفة خاصة والحيوانات بصفة عامة التي حدد الله بيئة لها لا تستطيع الخروج عنها وإلا هلكت ، كما تلتقط الشغالات مادة صمغية من أماكن محددة من الأشجار ثم تضع الصمغ فى الشقوق والثقوب الموجودة فى بيوت النحل لمنع تسرب الحشرات إليها(3)
ووحيه إلى أم موسى عليه السلام لتلقه باليم فيلتقطه عدوه فيربى في قصره ويترعرع فى رعايته فينجو من الذبح والقتل الذي أعمله فرعون فى الأطفال ، قال تعالى (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (4) ، ووحيه إلى يوسف عليه السلام طفلا لينبئنهم بأمرهم الذي فعلوه بإلقائه في غيابت الجب كعلامة من علامات النبوة ، فقال تعالى (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (5) ، ووحيه تعالى للحواريين ليؤمنوا بعيسى عليه السلام ويساهموا فى نشر دعوته بعد رفعه الى السماء ، وهو ما يفهم منه أن الوحي أمر الهي مباشر لتحقيق مرادا له سبحانه وتعالى لابد أن يتحقق وليس بوسع أي مخلوق - وأقصد قطعا الأنس أو الجن لأن ما سواهما مفطور على الطاعة والانقياد - أن يحول دون ذلك
-------------------------------
(1) فصلت 11, 12 (2) الأنفال 12
(3) جريدة الأهرام الإشارات الكونية للقرآن د/ زغلول النجار العدد الخاص بآية النحل المشار إليها نقلا عن عالم متخصص .
(4)طه 38, 39 (5) يوسف 90