4 -وعلى نفس هذا النمط من التفكير أقول أوحى الله تعالى إلى الهدهد أن يطوي الأرض حتى يقع على قوم يعبدون الشمس من دون الله فيأتي سليمان عليه السلام الذي وهبه الله ملكا ما وهبه أحد بعده من العالمين فيحطه بما لم يحط به علما فيقضى الله أمرا كان مفعولا فيدخلوا فى دين نبي الله سليمان الإسلام ,قال تعالى (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ …الآيات)(1) وليعرف الإنسان أن مخلوقات أخر سواه توحد الله وتعبده .
5- وأوحى الله تعالى إلى فيل أبرهة أن يبرك ولا يقترب من الكعبة ليهدمها لأن دورها المعدة له لم يأتي بعد ، فأي قوة تلك التي تمنع هذا الدور الذي أعده الله ، فلما لم يعي أبرهة الدرس تطور التدخل الإلهي بصورة أكبر بإرسال الطير الأبابيل ، قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) (2)
مثلما أوحى الله لناقة رسول الله ألا تدخل مكة عام الحديبية لأنه العام الذي لم يؤذن فيه بفتح مكة فبركت ، وقال الصحابة وقتها خلأت القصواء (3) فقال صلى الله عليه وسلم : " بل حبسها حابس الفيل "(4)
6- وأيضا أوحى تعالى إلى الملائكة بنصرة المسلمين فى غزوة بدر لأن هزيمة المسلمين فى هذا الوقت كانت تعنى القضاء على الإسلام فى مهده ، وهو ماتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا ربه : " اللهم إلا تهلك هذه العصابة لن تعبد فى هذه الأرض أبدا " (5) قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)(2) ، بينما لم يحدث هذا المدد فى غزوة أحد مثلا لأن هزيمة المسلمين وقتئذ كانت لا تعني هزيمة الإسلام كله أو القضاء عليه .. أقول كل هذا على الرغم من وجود عوامل وحكم أخرى تخص الحدث ذاته بعضها معلوم وبعضها لا يعلمه إلا الله ، كمزيد من الدروس والعبر عن هزيمة أحد , وليدخل الناس في دين الله إذا ما رأوا معجزة إبراهيم عليه السلام .
هذا ومن ناحية أخرى فأن الله لا يوحي بشر لا لأن الشر لا يصدر عنه سبحانه وتعالى ، فهو القائل
( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)(6) إنما لأن الوحي بالشر تحريضا على فعله وحاشه تعالى ذلك: إنما يصدر الوحي بالشر من الأنس والجن ، قال تعالى ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم)(7) وقال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً )(
كما أن الوحي لا يكون إلا لتحقيق منفعة عامة ومصلحة للبشر
--------------------------
(1) النمل 20 وما بعدها (2) سورة الفيل 2:1 (3) القصواء إسم ناقة الرسول (4) حياة الصحابة للكاندهلوي ج أول
(5)الرواية بالتفصيل رواها الطبري في تفسيرالأنفال بالجزء التاسع (6) الأنفال 9 (7) الأنبياء من الآية 35
(
الأنعام من الآية 121 (9) الأنعام من الآية 112
وفى هذا الإطار ينبغي التفرقة بين الوحي وبين الأمور الآتية :
--------------------------------
1- التيسير أو التوفيق ، المشار إليهما فى قول الله تعالى وبعض الآيات المماثلة ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (1) وقوله ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا)(2) ، فهما بهذا المعنى منفعة خاصة تعود على صاحبها وليست وحيا ، لأن الأخير يحقق منفعة عامة اقتضت التدخل الإلهي المباشر ، بالاضافة إلى أن الوحي وسيلة لله سبحانه وتعالى يحقق بها مرادا له في خلقه أما التوفيق فجزاء على فعل , والوحي قد يكون لحظة أو برهة أو ومضة نور ، أما التيسير والتوفيق فمعية من الله تلازم صاحبها ،كما أن الوحي ليس في كل الأحوال تمييزا للموحى إليه ، بينما التيسير والتوفيق تمييزا للموفق لعلة فيه
2- التصرفات الأخلاقية ، هي التي تنبع من أخلاق الشخص الفطرية أو المكتسبة ، فإذا تصرف تصرفا نابعا من أخلاقه عد ذلك تصرفا أخلاقيا لاوحى فيه ، كمحاولة شخص إنقاذ أخر يشرف على الهلاك فاندفاعه لهذه المحاولة ليست وحيا إنما انطلاقة أخلاقية تدل على شيمة فيه هي الشجاعة أو النبل أو المرءوة ، وكمن يفرج عن مكروب فى ساعة ضيق قد يكون هلاكه فيها فذلك من صفة الكرم المتخلق به
4- التصرفات العقلية وهى الدالة على عبقرية الشخص أو سعة أفقه أو توقد ذهنه أو ألمعيته أو ثقافته أو نضوجه العلمي أو ذكائه ، كمن يتصرف تصرفا عاقلا يدل على حكمة وروية فلا وحي حينئذ
5- التصرفات الغريزية وهى التي مردها الى الغريزة كالأكل والشرب والجماع والرضاعة لاوحى فيها واستدراكا أقول أن وحي الله تعالى لأم موسى عليه السلام المذكور في قوله سبحانه : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم (3) لا ينصرف الى الرضاعة إنما ينصرف إلى الإلقاء فى اليم عقيب تغذيته بالرضاعة ، أو أن الوحي بالرضاعة جاء فى هذه الحالة خاصا كمرحلة سابقة على الإلقاء . بمعنى أن الأمر ليس للرضاعة ولكن للالقاء ، أذ الرضاعة لا وحي فيها باعتبارها تصرف غريزي . قال الطبري في تفسير الآية " حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن أبي بكر بن عبد الله قال لم يقل لها إذا ولدتيه فألقيه في اليم إنما قال لها أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم بذلك أمرت وقال آخرون بل أمرت أن تلقيه في اليم بعد ولادتها إياه وبعد رضاعها "
6- الفراسة . هي درب من دروب الذكاء وفطنة المتفرس وتخص المتفرس وحده وعرفها الرازي بأنها الاستدلال بالأحوال الظاهرة على الأحوال الباطنة ، وجاء فى المعجم الوسيط أنها المهارة فى التعرف على بواطن الأمور من ظواهرها , ومن الفراسة قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (4) وقوله صلى الله عليه وسلم عن أبي سعيد الخدري " اتقوا فراسة المؤمن فأنه يرى بنور الله" (5) فالمتفرس تنطلق فراسته من ذاته بلا وحي
-----------------------------
(1) الليل 5 وما بعدها (2) الطلاق 2 (3) القصص 7
(4) الحجر 75 (5)سنن الترمذي 3127 وكذا المعجم الكبير للطبراني وجاء أيضا بفتح الباري وكلاهما عن أبي أمامة .
إذن فالوحي غايته تحقيق مرادا لله سبحانه وتعالى لابد أن يكون ، وأمر الله سبحانه وتعالى ومراده الأكيد الذي لا بد أن يتحقق هو منهجه الذي أختاره لخلقه ليعبدوه به ألا وهو الدين ، والدين كما سيتبين لنا مر بمراحل زمانية متعاقبة ظل يكتمل فيها حقبة بعد حقبة ودين بعـد دين ونبي بعد نبي حتى اكتمل بدين الإسلام الخاتم هذا المنهج الذي أختاره الله قدر له منـذ الأزل أن يكون وبكيفية معينة وما كان فى مقدور أي خلق من خلقه أن يحول دون ذلك
الوحي ومحمد
----------------------
وبإنزال ما تقدم على محمد بن عبد الله قبل البعثة يمكن القول بأن محمدا كان واحدا من البشر الصالحين , وكان الوحي هدفا بالنسبة له لتحقيق مرادا لله سبحانه وتعالى ولمنهجه الذي لابد أن يكون , شأنه في ذلك صلى الله عليه وسلم شأن غيره من الصالحين المؤهلين لتلقي لهذا الوحي ، بما يعنى من وجه أخر أن تصرفاته صلى الله عليه وسلم وقتئذ كانت تنبع من أخلاقه وعقله وغريزته وفراسته وتيسير الله له ، أما الوحي فليس له إلا هذا الدور الذي ذكرته
زواجه من خديجة